لا يمكننا الحديـث عـن السوق السعودي للأدوية والمستلزمات الطبيـة قبـل السـبعينيات مـن القرن العشـرين، لشـح المعلومـات المؤكدة مـن مصادر موثوقة، نظرًا لضعف البنيـة التحتيـة الصحيـة في ذلك الزمان مـن الخمسـينيات والسـتينيات الميلاديـة.
كما أننا قد لا نسـتطيع تأكيد الإحصائيات والدول التي كانت تُستورد منها الأدوية والمستلزمات الطبية في تلك الفترة بدقة.
من المحتمل أن تكون هذه المنتجات قد دخلت المملكة عبر التجار أو الحجاج القادمين من مختلف أنحاء العالم، ولم تكن بالضرورة أدوية معتمدة أو معروفة ناهيك عن تسجيلها، بل قد يكون بعض منها مواد عشبية أو أدوية مشتقة أو مستخرجة من مصادر مختلفة ومتوارثة عبر الأجيال
لم يكن الناس في ذلك الزمان، يتطببون بالأساليب الحديثة، لذا لم يكن هناك سوق منظم للدواء والمستهلكات الطبية، يعتمد على إحتياجات محددة أو حلول معروفة ومثبتة علميا بأعراض جانبية أو باختبارات شريرية ومراجع علمية.
من الاكتشاف الى الفرص
في السبعنيات الميلادية، عندما اكتشف التجار السعوديون الفجوة الكبيرة في القطاع الطبي في البلاد، بدأوا رحلة الاستكشاف والاستقطاب، للبحث عن الشركات المنتجة لأشهر الأدوية الرائجة حينها، لكنهم لم يتمكنو من تحديد أولوياتهم لجذب الشركات المصنعة للأدوية والأجهزة المستهلكات، وذلك لعدم معرفتهم بطبيعة العمل التجاري في القطاع الطبي، إذ إنه قطاع متخصص، وأكثرهم كانوا بعيدين جداً عن هذا القطاع، لذا بدأ دخولهم خجولًا جدًا، ولا يتحقق إلا إذا كان معهم شريك متخصص، طبيبا كان أو صيدليا ذا تجربة وثقة عالية في المجال، فالتاجر بطبيعته عدو ما يجهل.
بدأت العلاقة بداية الأمر بوصفها فرصة لاستكشاف مجالات الاستثمار في القطاع الطبي. جرب التجار استيراد بعض المستلزمات الطبية الأساسية، مثل تلك المستخدمة في علاج الحروق والجروح ومستهلكات التجميل. وفتح ذلك الباب للتعامل مع الأسواق العالمية المتقدمة، مثل الأسواق الأوروبية والأمريكية واليابانية.
وعلى سبيل المثال في الثمانينيات الميلادية، عندما دخلت شركة كمبيرلي كلارك، والتي أصبحت هاليرد المملوكة لشركة آونز آند ماينر في المجال الطبي، أحدثت نقلة نوعية في المجال، إذ كان دخولها بمحض الصدفة، عندما عُرضَ المنتج الطبي على وكيل شركة كمبرلي كلارك السعودية، والمتخصصة في صناعة المنتجات الورقية (محارم كلنكس)، فتشكلت فرصة الاستثمار في منتجات نفس الشركة للمستهلكات الطبية والمجال الطبي، وبدأن توزيع المستلزمات الطبية وأطقم العمليات التي تسهم في حماية المريض والطبيب من العدوى، مثل «المريول الطبي».
ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا الوكيل اليوم من أكبر عشرة وكلاء بالمملكة العربية السعودية.
من هنا يمكننا رصد تحول العلاقة بين لاشركات المحلية ولاشركات العالمية المُصنعة، إذ بدأن العلاقة تتحول من اكتشاف يخشى التجار من عواقبه الى فرصة حقيقية أسهمت في دفع كثير من التجار نحو التفكير في الاستثمار في القطاع الطبي والمستلزمات الطبية، خاصة بعد رؤية الأرباح في هذا القطاع، ومقارنته بالقطاعات الأخري.
تحديات في الطريق
تزايد الطلب على الأدوية والمستهلكات الطبية في مطلع الثمانينيات الميلادية، لكن رغم ذلك لم يكن السوق السعودي مُغريًا للشركات العالمية المُصنعة، خاصة أنها كانت تنظر الى الأسواق في بلدان الشرق الأوسط بأنها غير مُغرية ولا ناضحة، وأنها أسواق متناهية الصغر وغير مستقرة في حجم الاستهلاك، مقارنة بحجم الطلب في أسواق مثل أوروبا وأميركا وغيرهما من الأسواق مُكتملة النضج، لأنها عكفت في ماضيها على تنشيط البحث العلمي، وكانت تستقطع نسبة كبيرة من أرباحها للأبحاث والتطوير العلمي، والكشف عن منتجات حديثة ومحمية بلكية فكرية.
لذا عندما شرع المستثمرون في استقطاب الشركات المُصنعة، واجهوا تحدي جذب الشركات الأجنبية بأقل تكلفة. وكان أكبر تحد يتمثل في عمليات الدفع، فالشركات المُصنعة كانت حريصة على عدم الدخول في أي مخاطر نقدية، إضافة الى تزايد الطلب في بلدانها، فكانت التعاقدات منحازة لمصلحة المصنيعين، بحكم أن لديهم اليد العليا في التفاوض.
ومـــع إصـــرار التجار المحلييـن، تحولـت العلاقـة التعاقديــة إلـــى علاقــة شـــراء فقـط، باتفاقيـات بسـيطة جـدا، لا تتضمـن الشـحن أو التأميـن أو التخزّيـن أو غيرهـا مـن متطلبـات تلـك التجـارة، ويتحمـل المشـتري (التاجـر المحلـي) جميـع المخاطـر «ExWorks»، فـي الوقـت الذي كانت فيـه شـروط الأنظمـة الطبية في السعودية دون حوكمة فعلية، خاصة أن سوق الأدوية والمستلزّمات الطبيـة مازال سـوقا ناشئا آن ذاك.
ورغـم التحديـات، نظر العديـد مـن التجار إلى الفرص والتحديـات والمخاطـر بجديـة وعـزم. وكان لحضورهـم فـي السـوق ونظرتهـم الثاقبـة والمسـتقبلية فـــي قطاع الصحة أثر بالغ في مستقبل القطـاع، فـي وقـت كان فيـــه التصنيـع المحلي والتوطيـن شـبه مسـتحيل.
وعلـى الرغـم مـن انتعـاش الأسـواق تزّايـد الطلـب علـى المنتجـات الطبيــة، إلا أن تحديات عـدة كانـت فـي انتظـار القطاع، خاصـة فـي ما يتعلـق باسـتيراد الأجهزّة الطبيـة، فالجهـاز الطبـي يتطلـب المعرفـة بأعمال التركيـب وتدريـب العامليـن والصيانة المستمرة، لذا خشي كثيــر مـــن التجـار مـــن تلـك المسـؤولية، لا ســيما أنهـم كانـوا يجهلون المجال الطبي والتعقيـدات الإكلينيكيـة حوله، ممـا أدى إلـى عزّوفهـم عـن اسـتيراد الأجهــزّة المعقـدة، التـــي يتجبرهـم علـى عقـود صيانـة طويلـة الأجل، لتعتمـد تجارتهـم علـى التعاـل بالمنتجات التي تنتهي مسـؤوليتهم تجاههـا بعـد التوريـد فقـــط كالمسـتهلكات الطبيـة والأدويـــة.
ازدهار ونمو
فـي نهايـة الثمانينيـات وبدايـة التسـعينيات الميلاديـة، بـدأت الأسـواق السـعودية تزّدهـر، وانتعشـت العلاقـة بيـــن المورد والمصنع الأجنبي، وأصبحـت العلاقـة بينهمـا تعاقديـة، مكتسبة عنصـر الثقـة بحكم العلاقـة التجاريـة لسـنوات. تحول الموردون إلـى وكلاء حصرييـن رسميين؛ فـضلا عـن تحسـين شـروط الاتفاقيـات التجاريـة فـي مـا يتعلـق بمدة التوريـد وطريقـة الدفـع والشـحن ومسـؤوليات الشـركات المصنعة تجـــاه التأميـن وقيمـــة الشـحن ومشـاركة المسـؤولية.
فـــي منتصـف التسعينيات الميلاديــة ونهاياتهـا، بــدأت الأسـواق الأميركيـة والأوروبيـة تواجـه تحدي المنافســة الشـديدة وتنكمــش مـــن ناحيـة النمـو، بســـبب تزّايـــد المصنعين وشـدة المنافسـة فـــي أســواقها، ولذا اتجهـوا إلـى مخارج أخـرى فـــي أسـواق كانـوا يعدونها ثانويـــة، وبـات المصنع يطـب مـــن التاجر السعودي تحقيـق مبيعـات محددة لسـد عجزّ الانكمـاش فـــي الأســـواق العالميـــة شـديدة المنافســـة.
هنـا واجه المسـتثمرون فـي القطـاع تحديـا مختلفا، يتمثل فـي ضرورة ترويـج المنتجات، وتعييـن موظفيـن متخصصين فـي المجـال الطبي والتوزيـع، ممـا دفـع الوكلاء إلى العمل بأسلوب مختلـف يركزّ علـــى التدريـب والتخصصيـــة فـــي المجال الطبـي.
زادت المنافسـة، وأصبـح مالك العلامـة التجاريـة يضغط على الوكيـل لأخذ أكبر حصة فـــي السـوق، ممـا ولد نوعا مـــن الشـد والجذب فـــي العلاقـة بينهمـا. ونتيجـة لتغير نظـرة المصنعين إلى الأسـواق السـعودية تكونت مكاتب علميـة لتلك العلامات التجاريـة الطبيـة فـي الأسـواق البديلـة، ينحصر دورهـا فـي الترويـج للمنتج بطريقة علميـة بحتـة وأسـلوب طبـي دقيق، وبهـا موظفون يتبعون للشـركة الأم.
فـي هـذه المرحلـة، بـرزت تخصصات طبية جديـدة فـي الجامعات خرجـت متخصصين، مما جعل الترويـج للمنتجـات يتخـذ منحى احترافيا.
تزّايـدت الندوات والمحاضرات العلميـة والمؤتمـرات التـــي يشـارك فيهـا الأطبـاء تجاربهـم، ثـــم تطورت عمليـات البيــع والشراء بيـن الوكيل والمصنع، الذي بدأ فـي التفكيـر فـي الخـروج مـن الحصريـة فـي منتصف العقـد الأول مـــن الألفيـة الثالثـة، ليعين المصنع أكثر من وكيل (غيـر حصري)، ممـــا زاد التنافـس بيـن الوكلاء، وتنوعت المنتجات التـي يتعاملون فيها.
نموذج متقدم
مـا بيـن عامي 2000م و2010م، بـدأت الشركات المصنعة (مالكـة العلامـات الطبيـة التجاريــة العالميـة)، تتدخـل فـــي الأسـواق على نحو مباشر، مـن خلال زيـارات ومقابلات مع المسؤولين والشـركاء مـن المورديـن والوكلاء داخـل المملكـة، مكثفة وجودها داخل السوق السعودي، كمـا اتجهت إلى منع الحصرية والشركات الوسـيطة. لكن واجهت هـذه الشركات تحديات جعلتها تتراجع ويتعيـد النظر فـــي إنهاء علاقـة الوسطاء (الموزعيـن والـوكلاء)، أبرزهـا سـداد المديونيـات فـي وقتهـا، خاصـة أنهـا شـركات رأسـمالية بحتة، وأي تأخير فـي المديونيات تترتب عليـه فوائد تتقاضاها البنوك فـي بلدانهـا، فـضلا عن مخاطر الغرامات حال التأخير أو عدم الالتزّام ببنـود التعاقد الحكومية، وهي عقود إذعان.
حينها شـهدنا نشـأت الهيئـة السعودية للغذاء والدواء، ناقلـةً للأنظمـة والتشـريعات المتقدمة مـن تجارب أسـواق الـدول المتطورة فــي هـــذه المجالات، ممــا أسـهم فـــي تنظيم الســـوق والرقابـة عليـه، وتقليـل المخاطر والحـد مـن جشـع التجار بإدخال أي منتـج يدعى أنـه طبي، دون دراسـات بحثيـة وسـريرية مثبتـة أو مجربـة في أسـواق أخـرى معترف بهـــا مـن منظمات احترافية مثــل سـي إي الأوروبيـــة «Mark CE» وهيئـة الـدواء والغذاء الأميركيـة «FDA». ونتيجـة لذلـك، أصبـح السـوق السـعودي نموذجا إقليميا رائـًدا ومميزا فـــي إدارة مخاطر المنتجات الطبيـة وحمايـة المجتمع من هـذه المخاطر في جميع أطوارها، مـن التســجيل والاســتيراد والتخزّين والتوزيـع والاستدعاء.
بعدها أنشـئت شركة نوبكو بأمر سام عام 2009م لتوحيد الجهود وتنظيـم الشراء والتوزيع تحت شركة وطنيـة موحدة، ولتبرز بدورها فـي تخصصها لرفـع وتحسـين خدمـة جلـب المنتجات الطبيــة واسـتقطابها، مـــن شتى أقطار الأرض، ودعم المصانـع المحليـة بأولويــة الشـراء مـــن المصانع المحليـة بنســبة 86% مـــن إجمالي مشترياتهم، فـضًلا عـــن الحس الوطني الذي يدفعهـا باتجاه التوطيـن والأمن الدوائي.
وأخذت نوبكو على عاتقها مسـؤولية توفيـر الأدويـة والمسـتهلكات والأجهــزّة الطبيــة، واحتياجات جميع المستشفيات، وتطورت ليتلامـس حاجـة المرضى مباشـرة إلـى توافريـة الأدويــة وتوصيلها إلـى داخل منازلهم بجميـع أنحاء المملكـة، لتغطي بخدماتها 97% من مساحة المملكـة الجغرافيــة، وباتت من الشـركات التي أعادت توازن القطاع الصحي بالـبلاد، وجعلت مـن نفسـها نموذجا ييحتذى به بدول الشـرق الاوسط.
واليوم وبالنظر لكّل مـا يواجهـه السوق المحلي مـن تغيرات فـي علاقات الموردين والمصنيعين، أصبـح السـوق السعودي فـي القطاع الصحي مصنفا عالميا، وأحد الأسواق الواعدة بالفرص لكثير من المستثمرين. ولاحظنا فـي الآونـة الأخيرة تسارع وتيـرة الاستثمار لتوطين الصناعات الطبيـة بجميـع أشكالها، ومنها منتجات ذات طابع أمن وطني كصناعــة الإنسـولين وغيرهـــا. بيـد أننا مـازلنا خلف الركب مـن حيـث الأباث والتطوير والملكية الفكريـة في هـذا القطاع، ولا تزّال اليد العليا لمالك المنتـج الابتكاري والمحمي عالمياً بملكيـة فكريـــة.
مثلت رؤيـة السعودية 2030 تحولا كبيرا في النظر إلـى القطـاع الصحي، خاصـة عقـب جائــة كوفيـد19، مـن خلال دعم واسـتحداث هيئـات جديـدة مثل هيئـة التصنيع المحلي والمشـتريات، بوصفهـا محفزا وطنيا للتوطيـن والتصنيـع المحلي، ممـا أسـهم فـي تغييـر إسـتراتيجيات كثيـر مـن المصنعين الذين باتو يعرضون علـى شـركائهم فـرص توطيـن الصناعـة والتصنيـع المحلي، وجلب أكبر حصة سـوقية لمنتجاتهـم، ليـس على المسـتوى المحلي فقـط، بـل على المسـتوى الإقليمـي والعالمي، ومن مملكتنا الحبيبـة إلى جميع أقطار المعمـورة.
واستطاع بعضٌ الوكلاء القادرين ماليا استيعاب الطلـب فـي السوق، وإقناع شركائهم بإنشاء مصانع محلية والاستفادة مـــن الحوافزّ التي يقدمها توطين هـذه العلامات التجاريـة محليا والنقل المعرفي، إذ بات هذا هو المخرج الوحيد بهذا السـوق المتقدم مهنيا في هـذا القطاع.
رحلة طويلة ممتلئة بالتحديات والأمل، وما زالت مستمرة بجهود المؤسسات العاملة فـي القطاع، وتوجيهات القيادة الرشيدة أدامها الله والتي منحت هـذا القطاع الزّخم التجاري وبنت له البيئة الجاذبة للاسـتثمار والتوطين.
أ. خالد الغامدي
الرئيس التنفيذي للقطاع التجاري بشركة نوبكو
نقلا عن نشرة نوبكو