منذ التحاقي بقطاع المستشفيات عام 2018 وأنا أعايش مشهدا متكررا لا يمكن إغفاله وهو منظر الأدوية التي تُحضَّر بعناية، ويُبذل فيها جهد ذهني وبدني من الصيادلة والفنيين، ثم تعود في نهاية اليوم إلى الصيدلية لتُرمى أو تُسجّل كمرتجعات دون أن يستفاد منها،.
هذا المشهد يعرفه كل من عمل في المستشفيات خصوصا تلك المرجعية منها ذات السعة السريرية الأكبر، وهو ليس مجرد تفاصيل يومية، بل قضية لها أثر اقتصادي وصحي وبيئي يتجاوز حدود هذه المستشفيات ليصل إلى صناع القرار وموازنات الدول.
الصورة العالمية
في بريطانيا أصدر النظام الصحي تقريرًا رسميًا عام 2010 م قدّر قيمة الأدوية المهدرة بـ 300 مليون باوند سنويًا، أي ما يعادل مليارًا وخمسمئة مليون ريال سعودي، فقد أوضح التقرير أن نصف هذا الهدر يعود لأسباب طبية لا يمكن تفاديها مثل تغيّر حالة المريض أو وفاته، لكن النصف الآخر قابل للتقليل من خلال سياسات تشغيلية أكثر دقة في الصرف والتحضير. هذا الرقم الضخم يعني أن بريطانيا تخسر يوميًا ما يكفي لتشغيل مستشفى متوسط أو لتوظيف آلاف الممارسين الصحيين، وهو ما يعكس حجم المشكلة عالميًا حتى في أنظمة صحية متقدمة.
الواقع المحلي
الصورة في المملكة العربية السعودية ليست بعيدة، ففي دراسة أُجريت في مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالرياض في العام 2017 م أظهرت أن الأدوية الوريدية المرتجعة خلال شهر واحد بلغت 2061 صنفًا، حوالي 52% منها غير صالح للاستعمال، بقيمة قاربت 100 ألف ريال. أما الأدوية المهدرة نهائيًا فقد بلغت قيمتها نحو 52 ألف ريال. أكثر الأدوية المرتجعة كانت من المضادات الحيوية واسعة الاستخدام مثل Vancomycin و Piperacillin/Tazobactam، وغالبية الحالات سُجلت في أقسام العناية المركزة حيث تتغير الخطط العلاجية بسرعة.
حلول مجرّبة
الأرقام وحدها لا تكفي لإدراك حجم النزيف، لذلك جاءت تجارب محلية لتثبت أن الحلول ممكنة وواقعية، ففي مدينة الملك فهد الطبية بالرياض عام 2019 م، جُرّبت عدة استراتيجيات لخفض المرتجعات. أبرزها كان التحضير على دفعتين يوميًا (Two Batches) بدلًا من الاكتفاء بدفعة صباحية واحدة. النتيجة كانت واضحة في انخفاض المرتجعات بنسبة 42% وتوفير مالي سنوي يقارب 42 ألف ريال.
وفي مستشفى مدينة الملك عبدالعزيز “الحرس الوطني” بالرياض، طُبّق أسلوب ABC-VEN لتصنيف الأدوية حسب تكلفتها وأهميتها السريرية، حيث ركزت الاستراتيجية على الفئة الأعلى تكلفة التي تمثل نحو 20% من الأدوية بالرجوع لبيانات سبع سنوات ماضية، أدى هذا النهج إلى تقليص نسبة الهدر من0.9 % إلى 0.21%، أي ما يعادل 15 مليون ريال من أصل 7 مليارات.
دلالات أعمق
هذه التجارب تكشف أن الهدر الدوائي ليس مجرد نتيجة لخلل في إجراءات التحضير أو الصرف، بل هو ملف استراتيجي يتطلب تدخلًا تشريعيًا وتنظيميًا، مع تدريب الكوادر على التعامل مع الأدوية باعتبارها موردًا وطنيًا ثمينًا، فالقضية هنا تمس جانبًا اقتصاديًا بقدر ما تمس جودة الرعاية الصحية وثقة المريض، وهي تفرض على الجميع التفكير في حلول دائمة لا مؤقتة.
يبقى السؤال موجّهًا إلى صناع القرار والممارسين، هل سنبقى نتعامل مع الهدر الدوائي كأمر طبيعي لا مفر منه؟
أم نحوله إلى فرصة لإعادة صياغة سياساتنا الدوائية بما يحمي المال العام ويعزز كفاءة النظام الصحي ويصون مواردنا؟
عبدالعزيز آل رفده، صيدلي ممارس، وحامل لشهادة الماجستير التنفيذي في التشريعات الدوائية